المنطلقات الفكرية للجبهة الوطنية العريضة ومهمتها أثناء حرب التحرير في الصحراء الغربية

لم تغب عن الشهيد الولي مصطفى السيد وطلائع الحركة الوطنية الصحراوية، أن تحرير الوطن من الاستعمار الإسباني هو مهمة عموم الشعب الصحراوي، وأن القمع الوحشي الذى واجهت به الإدارة الإستعمارية إنتفاصة الزملة السلمية يوم 17 يونيو 1970 واختطاف زعيم الحركة الوطنية المعاصرة، محمد سيد ابراهيم بصيري، قد قفل الباب أمام إمكانية الحصول على الإستقلال بطريقة متحضرة وعلى طاولة المفاوضات، وأن هذه الوضعية لم تُبقِ أمام الشعب الصحراوي سبيلا سوى خيار الكفاح المسلح لطرد الإستعمار البغيض.

الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يوجد عليها الشعب الصحراوي تحت الإستعمار والحالة السياسية الإقليمية والدولية كانت كلها عوامل يجب التعامل معها وأخذها في الحسبان لتحديد التصور النهائي لمشروع التحرير واستراتيجية الثورة وأداتها وأساليبها.

لابد لنا بعد خمسة عقود من إندلاع حرب التحرير وتراكم تجربة غنية وفريدة في الميادين السياسية والعسكرية والدبلوماسية، وفي مجالات البناء المختلفة، أن نتذكر الظروف الموضوعية والخلفيات الفلسفية أو المنطلقات الفكرية التي قامت عليها ثورة الـ20 ماي وتعاملت بها مع المجتمع وفي علاقاتها مع الخارج في نقاط بارزة ومحددة ضمن استراتيجية مزدوجة تهدف إلى التحربر والبناء الوطني، في آن واحد.

عبقرية الشهيد الولي ومستواه الثقافي السياسي العالي ومتابعته الدقيقة لتفاصيل حروب التحرير التي كانت تدور رحاها في تلك الحقبة، أي مطلع السبعينيات، بالإضافة إلى المماطلات الإسبانية والأطماع التوسعية لدي بعض الجيران، جعلته لا يتريث ويحدث الديناميكية التاريخية، عبر قرار الإنطلاقة للتحرك السريع، والتي يعود لها الفضل في وضع الشعب الصحراوي فى حالة من الاستعداد مكنته من الناحية السياسية والتنظيمية من مواجهة ما كان يحاك آنذاك ضده في الخفاء.

1- خلق المناخ الملائم لحمل السلاح

الدعوة إلى التحرر واستغلال ارتباط الثقافة الصحراوية بالحرية التي هي من مميزات حياة الصحراويين اليومية التي ترفض الخنوع وتتمسك بالكرامة والشرف؛ فالصحراوي بطبيعته يعشق الحرية ولا يقبل الظلم والاضظهاد.

كان أولويا عند الشهيد الولي ورفاقه، منذ البدايات الأولى، ترسيخ الإعتقاد وخلق الاتفاق على أن التحرير يتطلب مشاركة جميع الصحراويين والصحراويات، كبارا و صغارا؛ لأن الأمر واجب مقدس وفرض عين من الناحيتين العقائدية والأخلاقية.

فمن سلبت منه أرضه وجب عليه استرجاعها وتحريرها، ونفس الشيء بالنسبة للذين أخرجوا من ديارهم بالقوة، ظلما وعنوة، فرض عليهم القتال لاستعادتها؛ هذا لا خلاف عليه وتتفق حوله العقائد السماوية والنظريات الأيديولوجية.

الإلمام المعرفي لزعيم الثورة بأصالة شعبه ومميزاته وتمكنه الثقافي المواكب للعصر جعله يبادر انطلاقا من تحليل علمي وسياسي دقيق أداه لاتخاء قرارات استباقية انطلاقا من نظرية ثورية، مستقبلية واستشرافية.

2- همسة الحرية

نحن هنا، إذن، أمام شعب مستعمر له حق مقدس معترف به؛ الحق في الحرية، لأن الحرية هي الوضع الطبيعي للإنسان وللشعوب.

فالحرية كمفهوم نظري هي أهم قواعد وأسس الحياة ويجب فهمها أنها شيء كلي ومتكامل، لايقبل التجزئة؛
فإما أن تكون الحرية أو يكون عكسها أي العبودية أو الاستعباد؛ هذا المفهوم له ارتباط وثيق بماهية الوجود ومعاني الحياة.

الهمسة الأولى أتت، إذن ، متطابقة مع الموروث الثقافي التاريخي للشعب الصحراوي، ويمكن اعتبار أنها هي أول مميزاته.

أ-الحرية حق مقدس.

ب- الحرية هي الوضع الطبيعي للإنسان الصحراوي.

ج- الحرية لا تقبل التجزئة؛ ولابد من الدفاع عنها، لأن الوجود المخالف لها يضع البشر في وضعية تحت إنسانية أو لا إنسانية، في وضع سلبت منه الكرامة والشرف والسيادة.

وما دام الأمر هكذا، فإن مهمة التحربر هي مهمة مشتركة وقاسم مشترك بين جميع الصحراويين.

وبما أنها تتطلب مشاركة جميع فئات الشعب الصحراوي فقد إتضح بعد مخاض ونقاش هام، قاده الشهيد الولي ورفاقه، أن الأمر يفرض قيام جبهة شعبية وطنية عريضة يكون تحقيق الإستقلال الوطني هو هدفها الأسمى عبر قيام دولة مستقلة وذات سيادة تتبنى النظام الجمهوري الديمقراطي.

3- الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء و وادي الذهب هي التسمية التي اخذتها الجبهة الوطنية العريضة

وبالفعل، فالكلمتين: 1- الجبهة و 2- الشعبية، تجسدان فكراً و نظرة، و تحملان في طياتهما استراتيجيات وبرامج.

أولا: الجبهة

اختيار تسمية حامل الراية، راية التحربر، باسم الجبهة يهدف إلى تجاوز الأحزاب، إن وجدت، أو الحركات ذات الطابع الحزبي، لأنها لابد أن تتبنى، بدون شك، فلسفات أو نظريات قد تكون إقصائية في بعض جوانبها، بينما الهدف المرحلي والرئيسي أثناء المرحلة الإستعماربة يكمن في حشد كل الصحراويين لتحرير وطنهم عبر وحدة كاملة وشاملة بغض النظر عن مشاربهم العقائدية وأفكارهم السياسية.

فالهدف من الجبهة، عملياً ونظرياً هو أن تكون الإناء الكبير والإطار الجامع الذي يتسع لكل الصحراويين المؤمنين بحقهم في الحرية والإستقلال والمتشبثين بوطنهم وسيادته والمستعدين للتضحية في سبيله.

أ- الجبهة الوطنية العريضة وحل التناقضات

إسم الجبهة خيار سياسي مدروس وتوجه ضروري وملائم؛ فوحدة مكونات الشعب الصحراوي وجمع كل فئاته في جبهة عريضة تهدف إلى التحرير وانتزاع الحقوق الوطنية الثابتة وممارستها فعليا، تتطلبان حتما تغليب التناقض مع الإستعمار الاسباني والإحتلال المغربي من بعده على كل التناقضات أو الإختلافات التي قد تكون موجودة في المجتمع الصحراوي كأي مجتمع آخر.

فمهمة الجبهة العريضة تفرض تأجيل كل أنواع التناقضات والصراعات الداخلية لأنها ثانوية، ليحل محلها التناقض الرئيسي مع الإستعمار أو الإحتلال السالب للحرية المغتصب للأرض.

ففي الجبهة العريضة تنصهر كل الفئات الشعبية في عجلة التحرير من الناس البسطاء من عامة الشعب، مرورا بكل الفئات من عمال وجنود ومثقفين وغيرهم من أصحاب مهن إلى أصحاب المال أو الرأسمال، بهدف تسخير كل الطاقات والإمكانيات لربح الرهان الأول.

الاختلاف في الرؤى، وربما في تحديد الأساليب التكتيكية، في إطار الجبهة العريضة، كأداة للتحربر، لا يمكن أن يبرر الخلط بين المراحل ولا بين سلم الاولويات.

فالخروج عن إجماع الجبهة الوطنية العريضة في مرحلة حرب التحرير، كما نعلمه من تاريخ البشرية، بالإضافة إلى كونه ردة، فإن مآله الفشل لأن قوة الديناميكية الخاصة بتلك الحروب تلفظ كل تيار مناهض لها؛ وهذا بالضبط هو ما يفسر دائما فشل الإستعمار والإحتلال الأجنبي في الموضوع المتعلق بخلق ما يعرف بالقوة الثالثة.

والجبهة الوطنية العريضة تحتضن، إذن، جميع الحساسيات السياسية والفكرية وتخلق الأرضية الوطنية المشتركة التي تشكل قاعدة للعمل الوطني تسمح بمساهمة جميع الصحراويين بدون أي إقصاء ما عدى من اختار الصف المعادي للوطن المستقل.

إن الإستقلال الوطني هو الهدف المركزي للجبهة الوطنية العريضة الذي هو سر وجودها.

ب- الجبهة الوطنية العريضة والوحدة الوطنية

بادر الشهيد الولي بدعوة الصحراويين إلى توحيد الصف وتجميع القوة وطي صفحة جميع أنواع الخلافات أو الإختلافات كضرورات حتمية وشروط أساسية لتحرير الوطن ومواجهة المؤامرات الرامية إلى القضاء على الشعب الصحراوي ومصادرة حقوقه إلى الأبد.

أصبح لقاء عين بنتيلي التاريخي يوم 12 أكتوبر 1975، بالنظر إلى الظروف الوطنية والجهوية والدولية المحيطة بقضية الصحراء الغربية في ذلك الوقت بالضبط، من أهم وأكبر الانجازات التي حققتها الجبهة.

حضور كبار القوم من أعيان وشخصيات وازنة شكل اللحمة أو العصمة، التي فتحت الباب واسعا أمام تشكل الإجماع الوطني الضامن لمسيرة التحرير.

سيسجل التاريخ أن قيام الوحدة الوطنية قد أفشل التقسيم وأسس سدا منيعا أمام التشرذم ووحد الكلمة وعبّد الطريق أمام إعلان الجمهورية الصحراوية.

فالوحدة الوطنية ليست وحدة قبائل، وإنما كانت ومازالت هي ذلك التجسيد الملموس لعقد إجتماعي وطني يستمد قوته من إرادة صلبة لدى الشعب الصحراوي في أن يعيش سيدا فوق أرض أجداده، ووعيا منه أن غير ذلك هو الفناء والإنقراض.

سقوط قوافل الشهداء الذين تتزايد أعدادهم اليوم بعد إستئناف الكفاح المسلح يدل على تمسك الشعب الصحراوي باستقلال وطنه وبكرامته وشهامته واستعداده لدفع ثمن الحرية التي لن يرضى عنها بديلا.

ثانيا: الشعبية

كان بالإمكان أن يكون الاسم هو الجبهة لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب أو غير ذلك من التسميات دون حضور لفظة الشعبية.

البعد الشعبي في فلسفة الجبهة يعود إلى أن القناعة بالشعب والإيمان به هما المنطلق؛ فالشعب، بعد الله، هو مصدر القوة الذي يترتب عنه سر الوجود المستقل وتنحدر منه جميع الحقوق لأنه هو صاحب السيادة.

والشعب الذي هو مصدر القوة لابد أن يكون منظما وموحدا ليكون قادرا على انتزاع النصر كما يعلمنا الشهيد الولي في محاضراته للأطر سنة 1976.

لقد تمخض من تلك القناعة شعارات خالدة تبرز أن حرب التحرير تضمنها الجماهير، لأنها هي صاحبة المصلحة في الحرية والسيادة والقادرة على انتزاعهما.

لقد إعتمدت الجبهة الشعبية ديمقراطية مباشرة منذ الوهلة الأولى، أساسها إرادة الشعب. وتعتبر تجربتها رائدة في هذا المجال؛ وقد تكون الظروف الصعبة الناتجة عن العدوان العسكري وما ينجر عنه من صعوبات موضوعية حالت دون إشاعة تلك التجربة ووجاهة مزاياها الكثيرة بالنسبة لتقويم البناء الوطني.

الطبيعة الإستقلالية للجبهة الشعبية

الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب إنتاج وطني صحراوي خالص؛ فكرا و تأطيرا، فلسفة وتوجها.

إنها التعبير التاريخي عن الوعي بالهوية الواحدة وبالمصلحة الوطنية المشتركة لشعب حاول المستعمر تغييبه وطمع التوسع في ضمه بهدف القضاء عليه.

الجبهة الشعبية ليست فكرة مستوردة وا امتدادا لنظام أجنبي أو لأية جهة مهما كانت؛ وهذه الحقائق الملموسة تفند، بالمناسبة، ما صدر عكسها أو يكون قد صدر عن أي إنسان أو جهة معينة لجهل أو قصر نظر أو نقص في المعلومات أو بسبب آخر.

قرار تأسيس الجبهة الشعبية واندلاع الكفاح المسلح يرمزان إلى الإبداعات التي أنجبتها العبقرية المتميزة للشعب الصحراوي؛ ولم يكن لأي أحد كان، غير أبناء الصحراويات، أي دور فيهما.

وسر إنتزاع الجبهة الشعبية لمكانتها التاريخية، بدون منازع، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الصحراوي يكمن بالضبط في وجود تلك الحقائق.

والطبيعة الوطنية الإستقلالية للجبهة الشعبية جعلها تفرق في علاقاتها الخارجية بين التحالف والتبعية وتفصل بين الصداقة والعمالة؛ ولا تقبل المس بهذه الخصائص التي كلفها غاليا الدفاع عنها.

هذا الرصيد الوطني حافظت عليه الجبهة الشعبية التي تؤمن بأن التعاون والسلام بين الشعوب والأمم لابد أن يكونا مبنيان على الاعتراف بالمساواة والندية وأن يجسدان الإحترام التام للمبادئ والشرعية التي ترتكز عليهما العلاقات الدولية المعاصرة.

وليست للجبهة الشعبية مواقف عدائية ضد المصالح الشرعية لأية جهة، كما أنه ليست لها عقيدة عدوانية أو توسعية أو خلفية شوفينية ضد جيران الجمهورية الصحراوية أو أية دولة من دول العالم.

وتعتبر الجبهة الشعبية أن احترام حقوق الآخرين (بمعنى الشعوب والأمم) هو أساس السلام والتعاون.

ومن المنطلقات الفكرية الأساسية للجبهة الشعبية الدفاع عن الحق والعدالة والمساواة، وتعتبر أنها مبادئ ديمقراطية من المفروض أن تكون فوق الاعتبارات الأيديولوجية والانقسامات السياسية بين اليمين واليسار.

وليست للجبهة الشعبية أية عقدة في ربط علاقات مع كل الحكومات والأحزاب والحركات السياسية التي تعترف للشعب الصحراوي بالحق في تقرير المصير، وذلك على أساس الإحترام المتبادل والتعاون المثمر.

إن الحق في تقرير المصير باعتباره أهم مبدأ من المبادئ الإنسانية السامية، ولذلك تم تسجيله في المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة، لايمكن أن يشكل الدفاع عنه تصنيفا أيديولوجيا معينا في اتجاه اليسار أو اليمين.

محافظة الجبهة الشعبية على طبيعتها الجامعة للصحراويين والمتمسكة بحقوقهم وطموحاتهم، بغض النظر عن توجهاتهم العقائدية أو الفكرية، تؤكد على أن مرحلة الجبهة الوطنية العريضة مازالت قائمة ومستمرة وأن مهمتها لن تنهتي إلا بمغادرة آخر جندي أجنبي لتراب الجمهورية الصحراوية.

بقلم:امحمد /البخاري

شارك الموضوع
%d مدونون معجبون بهذه: